((في حكم من يأكلون أموال الناس تحت مسمى المشاريع التجارية ، ويتساهلون في الديون ، ويأخذون من هذا ويعطون لهذا ، وهم ليسوا دارسين لجدوى المشاريع بسبب تساهلهم أولأنهم لا خبرة لديهم وإنما هم مدعون متشبعون بما لم يعطو ، أو لأن عندهم نية مبيتة لأكل أموال الناس بالباطل تحايلا عليهم):
السؤال:
أخي الشيخ بلال ، قد تعاملت مع أخ نحسبه مستقيما في تجارة ، وادعى أنه عارف بتلك التجارة ، وأن عنده صنعة وله قدرة على توزيع المنتوجات ، ثم بعد بداية العمل ، بدأ يتماطل ويتكاسل عن العمل ويتململ في ذلك ، فإذا طلبت منه العمل صرخ في وجهي وقال أن هذا العمل يحتاج عمالا ويحتاج آلات وعتادا ، ووالله ياشيخ ما كان هذا اتفاقنا في الأول ، ولو علمت أنه سيتطلب كل هذا ما دخلت معه ولا ورطت نفسي بجميع تلك الأموال ، وقد عرفت بعدها أنه متورط مع كثير من الإخوة وكلهم يطالبونه بأموالهم ، فبعضهم أعطاه سلعة ليبيعها لهم ، وبعضهم أعطاه نقودا إلى أجل ليعينه بها ، وغيرهم كثير ! فما هو حكمه وكيف أتعامل معه ؟ فقد تعبت كثيرا والله المستعان.
الجواب:
جاء في الحديث المرسل ومعناه صحيح موافق للمنقول والمعقول عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق، ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله، فإن المنبت لا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى).
وحال هذا الأخ المسؤول عنه موافق تماما لهذا الحديث النبوي الكريم ، فهو يقفز هنا وهناك وينقطع هنا وهناك ولا يحصل غير الندامة والخزاية في الأخير والملامة من الصغير والكبير ويورط نفسه وغيره وهو الضامن الوحيد والمتورط الأكيد .
ومن كان حاله كذلك فهو صعفوق حقيقي لأن الصعفوق عند السلف هو من يدخل السوق بلا رأس مال ويلبِّس على التجار ويوهمهم أنه صاحب مال وخبرة في التجارة وهو ليس كذلك .
وهذه بعض الأحاديث في فداحة وخطورة الديون وعظم أمرها عند الله تعالى :
روى مسلم رحمه الله في صحيحه عن أبي قتادة رضي الله عنه أن رجلا قال: يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله أتكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (نعم وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر إلا الدين) .
وروى أحمد رحمه الله في مسنده عن محمد بن جحش رضي الله عنه قال: كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فرفع رأسه إلى السماء ثم وضع راحته على جبهته، ثم قال: (سبحان الله ! ماذا نُزِّل من التشديد؟) ، فسكتنا وفزعنا ، فلما كان من الغد سألته يا رسول الله ما هذا التشديد الذي نزل؟ فقال: (والذي نفسي بيده لو أن رجلا قتل في سبيل الله ثم أحيي ثم قتل ثم أحي ثم قتل ثم أحي ثم قتل وعليه دين ما دخل الجنة حتى يقضى عنه دينه). وفي صحيح البخاري رحمه الله عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ أتي بجنازة، فقالوا: يا رسول الله صل عليها، قال: (هل ترك شيئا) قالوا: لا، قال: (فهل عليه دين) قالوا: ثلاثة دنانير، قال: (صلوا على صاحبكم) قال أبو قتادة: صل عليه يا رسول الله وعليَّ دينُه، (فصلَّى عليهِ).).
فاللهم استر علينا ، وعن نفسي فلا أعرف أحدا له علي دين يحاجني به يوم القيامة ، إلا شخص منذ أكثر من عشر سنين له علي قرابة (20دولارا تقريبا) كنت أتاجر معه وقد بحثت عنه كثيرا ، وعزمت على التصدق عليه بقيمتها .
وقد مات من مات من سلف الأمة وليس عليهم دين ومن كان عليه دين فقد كان للضرورة مع علمه بعفو أصحاب الدين عنه بعد موته أو بقدرته على سداده قبل موته أو يسدده عنه من يتركهم من بعده .
قلت هذا للتحفيز ومعرفة قدر الديون والتساهل فيها ، فحسابها عظيم عند الله تعالى .
ووالله قد تيسرت لي مشاريع تجارية ضخمة مع الاستدانة بمئات الملايين ولكني رفضت لأني لا أحسن تسييرها وتحتاج إلى دراسة الجدوى أي تحتاج دراسة كبيرة لمدى جدوى المشروع وجميع جوانبه ومايحتاج إليه من عتاد على المدى القريب أو البعيد قبل الانطلاق فيه وتوريط أهل المال ، وذلك لأن صاحب دراسة الجدوى والتطبيق الميداني يصبح مسؤولا عن رؤوس الأموال وضامنا تعويضها وسدادها وتصير دينا لازما في رقبته إلى يوم القيامة لأنه ادعى الخبرة في ذلك العمل ومعرفته الجيدة به وغرر بمن وثق فيه وائتمنه على رأس ماله ، فهو إذا مسؤول عن أي ضرر نفسي أو مادي يتعرض له صاحب المال من جراء سوء تقديره وتسييره لتلك الأموال والمشاريع .
وعندما خشيت تضييعها أو تعطيل الانتفاع منها وتأخر السداد وإحراج أصحاب الأموال أعرضت عنها واكتفيت برزقي المقدور والحمد لله ، فما أحوجني الله لأحد ليوم الناس هذا .
فمن استغنى عما بأيدي الناس كفاه الله بما عنده ، فأدعو الله أن يوفقني وإخواني فيما هو قادم .
فيا أيها الناس لا تغامروا بأموال الناس ولا تستحلوها بالطرق الملتوية فهذا حرام حرام ، ولا يجوز سداد دين فلان من مال فلان ، بل يجب رد كل حق إلى مستحقه ، فطريقة دفع هذا بهذا طريقة الفساق المتحايلين وليست طريقة أهل الفضل والمروءات وأهل الخشية من الله ، ووالله ستسألون فأعدوا للسؤال جوابا فالحساب عظيم .
وقد علقت بهذا لأني رأيت هذه الظاهرة قد استفحلت ورجعت بقوة من جديد خاصة في صفوف من نظنهم من أهل الاستقامة بعد أن ظننتها تلاشت زمن التسعينات ومطلع الألفينات ، وهي صورة من صور الاحتيال والتأكل بالدِّين وقد غلبت قديما على بعض المستقيمين في بداية استقامتهم ممن ضعف إيمانهم وغلبت عليهم طبائع جاهليتهم قبل التدين ، وكلما تفطن لهم الناس في مكان غيروا المدينة والطريقة والأشخاص وأعادوا الكرة مع من لا يعرفون حالهم ، مع تعدد الوسائل واختلاف المسالك المطروقة لأكل أموال الناس بالباطل .
ووالله لا عذر لمن اعتذر بالعذر المشهور عند هذه الطائفة (التجارة ربح وخسارة) بل هذا خداع وتحايل ، فلو عرف الناس أنك متهور وغير متقن وغير ضامن لما دخلوا معك في صناعة ولا ائتمنوك على تجارة ، إذ لا ميزة لك عن غيرك وهم تاجروا معك لما ادعيته من الاطلاع والتجربة الطويلة والإتقان .
ونضرب مثالا لذلك:
(فلو أنني ادعيت تمكني من تجارة الغنم ثم بعد أن أعطاني الناس أموالهم ذهبت واشتريت الكثير من الغنم ، ثم بعد مدة رجعت إلى أصحاب الأموال وقلت لهم لا يمكنني المواصلة لأنه ينقصني عمال ورعاة معي ، ثم أبقى أتساهل حتى تموت كثير من الأغنام ونخسر في تلك التجارة ، فهل حينها لا أعد مقصرا !؟ بل أنا مقصر وضامن لأنه كان الأجدر بي البحث عن الرعاة وعن العمال ودراسة كل جوانب الشروع بإتقان مادمت صاحب خبرة حقا ، قبل التهور والتلاعب بأموال الناس ، فحينها أتحمل المسؤولية المدنية _والجنائية لو تحتم الأمر_ والشرعية كاملة). والخلاصة أخي في الله أن مثل هذه القضايا تُكيَّف في بند الغش والاحتيال شرعا ووضعا ، وعليه رد كل مالك وضمان أرش ماضيعه عليك من الوقت والجهد جراء تلاعبه وتماطله لحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وعُقُوبَتَهُ) ، وحديث: (مَنْ أَدْرَكَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أَفْلَسَ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ) ، وحديث: (في كل سائمة إبل : في أربعين بنت لبون ، لا تفرق إبل عن حسابها ، من أعطاها مؤتجراً بها فله أجرها ، ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله ، عزمة من عزمات ربنا ، لا يحل لآل محمد منها شيء) ، وهو ما أعتقده الصحيح المختار من أقوال أهل العلم بجواز تعزير المتأكل بأموال الناس فيؤخذ شطر من ماله لا على سبيل الربا أو الضريبة وإنما هو أرش وعوض على المضرة الحاصلة جراء تقصيره ، وهذه العقوبة حكم تعزيري تقديري من ولاة الأمور سدا لذرائع الفساد وأكل أموال الناس بالباطل ، وليست حدا شرعيا منضبطا ، وكما يجوز بل يجب التحذير منه _إذا لم يتب_ على رؤوس الملأ حتى لا يقع في شراكه غيرك .
ثبتنا الله وإياكم .
والله المستعان.
أبو عائشة بلال يونسي
مجموعة المدارسات العلمية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق