بسم الله الرحمن الرحيم .
(آثار جليلة لو تدبرها المتشاكسون في الفتنة ما افتتن منهم أحد ولسلموا جميعا من مغبتها أتباعا ومتبوعين إلا ماقضى الله في الأزل ، مع التذكير بأني معتزل للجميع ولا أخوض مع الخائضين وأن من استبان له الحق بدليله وتيقنه ولم يتناقض عند نصرته له فلا جناح عليه ، وأن هذه الفتنة من أسبابها انتهاج سياسة الهروب إلى الأمام مع تراخ شديد في علاج الاختلافات بين الشباب وبين الدعاة بحزم وعزم وكذلك هي نتيجة تراكمات ورواسب تقارب الثلاثين سنة وبطانات سيئة مع تساهل أوتودد إليها على حساب الحق وأهله والسكوت على البواطيل وتكميم الأفواه الناصحة تضييعا لفرض الكفاية في سبيل تقوية التكتلات العصبية والانتماءات الجهوية وضعف في سياسة الدعوة وتقصير عظيم في التعليم والإصلاح وإقبال كبير على الدنيا ومتاعها فكانت نتيجتها ما نراه من تناقضات وتذبذب والله الموعد ليحكم بين المتخاصمين ، فعلى المتخاصمين التحاكم إلى العلماء ليفصلوا بينهم ولا يتركوها للعوام وأشباههم ، فالعلماء الثقات المحايدون هم وحدهم من لهم النظر في ما ثبت ومالم يثبت ، وينظرون في نوع كل خطأ ومدى تأثيره في عدالة الداعية وقابليته لتعليم الناس دينهم ، فمن وجدوه مدانا استتابوه ، ومن وجدوا خطأه محتملا ناقشوه وستروا عليه ، ومن وجدوا خطأه غير محتمل ألزموه بالتوبة والبيان والتراجع إن كان خطؤه منتشرا وإلا فتكفيه التوبة والبيان لمن بلغه خطؤه .
وذلك لأن الأمور خرجت عن نطاقها ولم تعالج معالجة شرعية ، ودخل فيها كل من هب ودب وأكثر من يقودونها ويلهبون أوَّارها إما عوام أو أنصاف متعلمين أو انتهازيون متسلقون .
وأما من المصيب ومن المخطيء فهذا أمر لا يفصل فيه أمثالي ، وإن كنت أعتقد في نفسي أنه لا يخلو أحد الطرفين من أخطاء رؤوسا وأتباعا ، ولكنها ليست على وتيرة واحدة ولا نفس الخطورة بل هناك تفاوت .
وأبرز ماظهر لي مما يزيد الأمور حدة هو حضور حظ النفس بقوة وشيء من التحزب المقيت مما يمنع عن الإذعان للحق أوالتبرؤ من أخطاء الأنصار أو سماع صوت الحكماء الناصحين من هنا وهناك .
فالواجب فيما أعتقد هو الكف وعدم الخوض وترقب الفصل من العلماء ، فالعجلة غير محمودة عند وقوع الفتن .
وأقول كل هذا مع لفت الانتباه إلى أن أكثر من في الفتنة شيوخ لي فضلاء درست عليهم وأشرفوا علي أو تلاميذ أعزاء استفادوا مني أو إخوة في الله أريد لهم الخير والنفع كما أريده لنفسي ، وأنا من أعرف الناس بكثير من الحيثيات والكواليس التي لا يعلمها أكثر الخائضين ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي).
وقبل سرد هذه الآثار أذكر نفسي وإياكم بالحديث النبوي العظيم في الصحيحين: {ستكونُ فِتَنٌ ، القاعِدُ فيها خيرٌ مِنَ القائِمِ ، والقائمُ فيها خيرٌ منَ الماشي ، والماشي فيها خيرٌ من الساعي ، ومَنْ يُشْرِفْ لها تَسْتَشْرِفْهُ ، ومَنْ وجد مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ}، والحديث النبوي الجامع في الترمذي وغيره: {دَع ما يَريبُك إلى ما لا يَريبُك} .
فأبدأ سردها وبالله وحده أستعين:
«ما رفعت أحدا فوق منزلته إلا وضع مني بمقدار ما رفعت منه» (1).
«إذا احببت فلا تكلف كما يكلف الصبي بالشيء يحبه وإذا أبغضته فلا تبغض بغضا تحب أن يتلف صاحبك ويهلك» (2).
«كان أحمد بن حنبل يحفظ ألف ألف حديث، فقيل له: وما يدريك؟ قال: ذاكرته فأخذت عليه الأبواب» (3) .
«إذا رأيتم أخا لكم زل زلة، فقوموه وسددوه وادعوا الله أن يتوب الله عليه ويراجع به إلى التوبة ولا تكونوا أعونا للشيطان عليه» (4) .
«أحبب حبيبك هونا ما، عسى أن يكون بغيضك يوما ما، وأبغض بغيضك هونا ما، عسى أن يكون حبيبك يوما ما» (5) .
«اعرف الحق لمن عرَّفه لك شريفا أو وضيعا» (6) .
«من أنزل الناس منازلهم رفع المؤنة عن نفسه ومن رفع أخاه فوق قدره اجتر عداوته» (7) .
«كانوا يقولون: لا خير لك في صحبة من لا يرى لك من الحق مثل ما ترى» (8) .
« إذا رأيتم الكتاب فيه إصلاح وإلحاق فاشهدوا له بالصحة» (9) .
«إذا أخطأتك الصنيعة إلى من يتقي الله فاصنعها إلى من يتقي العار» (10) .
«حللت حبوتي فهممت أن أقول : أحق بذلك منك من قاتلك وأباك على الإسلام ، فخشيت أن أقول كلمة تفرّق الجمع ، ويسفك فيها الدم ، فذكرت ما أعد الله في الجنان» (11) .
«اليوم يكثرون الكلام مع نقص العلم،وسوء القصد، ثم إن الله يفضحهم، ويلوح جهلهم وهواهم واضطرابهم فيما علموه، فنسأل الله التوفيق والإخلاص» (12) .
«لو سكت من لا يدري لاستراح وأراح ، وقل الخطأ وكثر الصواب» (13) .
«لو سكت من لا يعلم سقط الاختلاف» (14) .
«وقد قال بعض أهل العلم لو سكت من لا يعلم لاسترحنا» (15) .
«للهِ منزِلٌ نزلَهُ سعْدُ بنُ مالِكٍ وعبدُ اللهِ بنُ عمرَ واللهِ لئِنْ كان ذنبًا إنه لصغيرٌ مغفورٌ ولئن كان حسَنًا إنه لعظيمٌ مشكورٌ» (16) .
«إِنَّمَا كَانَ مَثَلُنَا فِي الْفِتْنَةِ كَمَثَلِ قَوْمٍ كَانُوا يَسِيرُونَ عَلَى جَادَّةٍ يَعْرِفُونَهَا ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ غَشِيَتْهُمْ سَحَابَةٌ وَظُلْمَةٌ ، فَأَخَذَ بَعْضُهُمْ يَمِينًا وَشِمَالا فَأَخْطَأَ الطَّرِيقَ ، وَأَقَمْنَا حَيْثُ أَدْرَكَنَا ذَلِكَ حَتَّى جَلَّى اللَّهُ ذَلِكَ عَنَّا ، فَأَبْصَرْنَا طَرِيقَنَا الأَوَّلَ فَعَرَفْنَاهُ وَأَخَذْنَا فِيهِ ، وَإِنَّمَا هَؤُلاءِ فِتْيَانُ قُرَيْشٍ يَقْتَتِلُونَ عَلَى السُّلْطَانِ وَعَلَى هَذِهِ الدُّنْيَا ، مَا أُبَالِي أَنْ يَكُونَ لِي مَا يُفَتِّلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِنَعْلَيَّ هَاتَيْنِ الْجَرْدَاوَيْنِ» (17) .
«( لا أُقاتِل، حتى يأتوني بسيفٍ لهُ عَينان ولِسان وشَفَتان، يعرف المؤمن مِن الكافِر، فَقَد جاهدتُ وأنا أعرِف الجِهاد» (18) .
وكما أختم بهذه الآيات والأحاديث لعلها تنفع قلبا فيه حياة:
✓ قال الله تعالى: {{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}} .
✓ وقال عز وجل: {{ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً }} .
✓ وقال سبحانه: {{وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}} .
✓ عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: {يا أيُّها النَّاسُ إيَّاكم والغُلوَّ في الدِّينِ فإنَّهُ أهْلَكَ من كانَ قبلَكُمُ الغلوُّ في الدِّينِ} [أحمد وغيره] .
✓ عن عُقبة بن عامر رضي الله عنهُ قال : قلتُ : " يا رسولَ اللهِ ، ما النَّجاةُ ؟ " ، قال : {أمسِكْ عليكَ لسانَكَ ، وليسعْكَ بيتُك ، وابكِ على خطيئتِكَ} [الترمذي] .
✓ وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: {التُّؤدةُ في كلِّ شيءٍ خيرٌ إلَّا في عملِ الآخرةِ} [أبو داود] .
✓ عن المقداد بن عمرو بن الأسود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إنَّ السعيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الفِتَنَ ، إنَّ السعيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الفِتَنَ ، إنَّ السعيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الفِتَنَ ، ولَمَن ابتُلِيَ فصَبَر ؛ فَوَاهًا} [أبو داود] .
✓ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَن} .[صحيح مسلم] ، قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم: "وَلَيْسَ الْمُرَاد نَفْس الشِّعْب خُصُوصًا، بَلْ الْمُرَاد الانْفِرَاد وَالاعْتِزَال، وَذَكَرَ الشِّعْب مِثَالا لأَنَّهُ خَالٍ عَنْ النَّاس غَالِبًا".
وقد صدق شيخ الإسلام رحمه الله حين قال: "وذلك أن الفتن إنما يُعرف ما فيها من الشر إذا أدبرت، فأما إذا أقبلت فإنها تُزَيَّن، ويُظن أن فيها خيراً، فإذا ذاق الناس ما فيها من الشر والمرارة والبلاء، صار ذلك مبيِّناً لهم مضرتها، وواعظاً لهم أن يعودوا في مثلِها. كما أنشد بعضهم :
الحرب أول ما تكون فَتِيَّة ** تسعى بزينتها لكل جُهُول.
حتى إذا اشتعلت وشب ضِرامُها ** ولَّت عَجُوزاً غيَر ذات حَلِيل.
شَمْطاء يُنكر لونها وتغيَّرت مكروهة للشم والتقبيل" ، "من استقرأ أحوال الفتن التي تجري بين المسلمين تبيَّن له أنه ما دخل فيها أحدٌ فحُمِدت عاقبةُ دخوله؛ لما يحصل له من الضرر في دينه ودنياه؛ ولهذا كانت مِن باب المنهيِّ عنه، والإمساك عنها من المأمور به الذي قال الله فيه: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}" ، “فالفتنة إذا ثارت عجز الحكماءُ عن إطفاء نارها” [ منهاج السنة] .
وقد نص غير واحد وكما روي عن علي رضي الله عنه وعن غيره من سلفنا الصالح رضوان الله عليهم أن اجتناب الفتن أسلم من دخولها وأن اعتزال الفتن أعظم أحواله في حق من ظهر له جانب صواب في إحدى الفئتين أن يكون صنيعه خذلانا للحق مع عدم نصرة الباطل وهذا أسلم من أن يكون في فعله نصرة الباطل مع خذلان الحق حين يدخل بلا علم ولا يقين فيما يفعل مذبذبا في ذلك كما هو حال أكثر العوام وأنصاف المتعلمين والمتسلقين وأصحاب المآرب والأطماع الزائلة من أدعياء العلم والمشيخة .
والله المستعان
أبو عبيدة بلال السكيكدي
___________
(1) (9) (10) حلية الأولياء عن الشافعي رحمه الله .
(2) كنز العمال ، من نصيحة لعمر رضي الله عنه لمولاه أسلم رحمه الله .
(3) تاريخ بغداد وغيره عن أبي زرعة الرازي رحمه الله .
(4) كنز العمال نقلا عن ابن أبي الدنيا وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما .
(5) ، (6) ، (7) كنز العمال عن علي رضي الله عنه .
(8) كنز العمال عن مجاهد رحمه الله .
(11) صحيح البخاري .
(12) الذهبي في السير .
(13) المزي في التهذيب .
(14) ابن عبد البر في الجامع .
(15) المعافى بن زكرياء في الجليس الصالح .
(16) الطبراني عن علي رضي الله عنه .
(17) سير الأعلام عن ابن عمر .
(18) مجمع الزوائد عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه .